عملت إيه فينا السنين؟ حدث راديكالي 2
في سن الثامنة عشرة يتفجر الشباب بالطاقة والحيوية، يتحررون من قيود التعليم ويخرجون إلى العالم بصوت أجش، وخطط مرسومة بدقة للسيطرة على العالم دون الأخذ في الاعتبار أنه الماكينة يمكن أن تأكل يده!
حاولت استدعاء ذكريات تلك الفترة من التاريخ، عصرت دماغي لأعرف ماذا كنت أفعل بالضبط في هذا الوقت من العمر، ولكن عقلي سينفجر من قلة النوم، ومشتت للغاية بين سن الثامنة عشرة، وبين عام ألفين وثمانية عشرة، والأمر جلل، ولا أستطيع تأجيل الحكاية، دعوني أضع الحبل على الجرار.
يقال أن الإنسان بأصغريه: قلبه ولسانه، فإذا صح قلبه نطق لسانه بالحكمة، وهذه الصحة العقلية لا تعتمد على حساب كم مرة تعاقب الليل والنهار على الجسد الفيزيائي، يفاجئني رؤية مفكر وهو بعد في التسعينات من عمره ولا تزال حواسه مصقولة، ويميز بين الصحيح والخاطئ، بعكس اناس اتجهوا نحو المخدرات، وفقدوا عقولهم، وقدرتهم على التمييز، في عز شبابهم، ولايمكن أن يعبر عن هذه الفكرة إلا المثل العربي القائل: " من شب على شيء شاب عليه"
عندما أنظر إلى التاريخ أرى زيد بن ثابت، الذي أصبح كاتب الوحي، وتعلم العبرية وهو على مشارف الثامنة عشرة، لم يدخلها بعد، أو أسامة بن زيد! الذي أصبح قائدًا للجيوش في سن الثامنة عشرة! هذا تاريخ قديم، كلنا نعرف هذا، لم يعد هذا في استطاعتنا.
شاهدت ما يشبه المعجزة ذات مرة، في بطولة تاتا ستيل للشطرنج، وأمام بطل العالم للشطرنج، الأفضل على الإطلاق في تاريخ الشطرنج "ماجنوس كارلسن" يتلقى هزيمة نكراء على يد فتى فى الثامنة عشرة من عمره!
كسر سلسة انتصاراته المتتالية، ليس خمسة، أو عشرة، أو عشرون، وإنما مائة وخمسة وعشرون انتصارًا متتاليًا! تنظر إلى وجهه ترى طفلًا صغيرًا! يحاول عقلي حمايتي من هكذا مقارنة، ولكن لا يمكنه فعل ذلك، في سن الثامنة عشرة كنت ضائعًا تمامًا، و كانت أذناي رطبتان، وملامح وجهي تنطق بالبلاهة، حتى عام ألفين وثمانية عشر، لقد كان هذا العام مفصليًا في حياتي، أو هكذا أظن.
في عام ألفين وثمانية عشرة كنت قد خضت تجربة تعليمية ممتازة، وحظيت بوظيفة جيدة، وأنهيت خدمتي العسكرية كذلك، ووجدت نفسي فجأة في مهب الريح، احتلت للعمل كمصمم جرافيك في مطبعة محلية، وكنت أتشرب المهنة ورائحة الألوان مثل الاسفنجة، حتى أُثقلتُ تمامًا ولم أستطع أن أتشرب المزيد، طلبت أجازة طويلة، أسبوعًا كاملًا، سأنهي بعض الأوراق، وسأجهز مكانًا صغيرًا للعمل من المنزل، وتطبيق التقنيات التي أتعلمها بصفة دورية، والتي لم أستطع تطبيقها في عملي في المطبعة، يوم واحد للسفر، وستة أيام لتصفية ذهني وراحة عظامي المتعبة، كنت أعمل أربعة عشر ساعة، ولكنني أحببت القيام بكل شيء، التصميم، شرب القهوة، تنظيف المكان، استلام طلبات الزبائن، رائحة الحبر، وكل من صحبتهم هناك، ولكنني كنت أحتاج إلى استراحة قصيرة أستعيد فيها استمتاعي بهذا كله.
حجزت تذكرة سفر إلى القاهرة، وحينما وقفت على الباب لم أجد التذكرة معي، تركت جهازي على رصيف المحطة وهرعت إلى المنزل، اكتشفت أن التذكرة كانت معي منذ البداية، تذكرت الجهاز الذي تركته على رصيف المحطة، وهاجت الأفكار السيئة في عقلي، وسابقت قدماي الريح، لحظات قصيرة شعرت فيها أنني أصبحت كهلًا ولافائدة ترجى من الاعتماد على لياقتي المعهودة، التي لم توجد يومًا، لحسن الحظ وجدت جهازي قابعًا هناك، وحيدًا على رصيف المحطة ينتظرني، استوقفت سيارة أجرة، وفي لحظة تشبه لحظات أفلام السرعة والغضب أوصيته باللحاق بالأتوبيس، وقد فعل السائق، ووقف أمام الأوتوبيس بطريقة درامية جعلت قلبي يسقط بين قدمي، وصعدت سلم الأوتوبيس ذاهلًا تمامًا وسط نظرات الركاب التي تستطلع هذا القادم الجديد الذي يخرج الدخان من شعره، ويحتضن جهازًا عتيقًا بماركة Dell ..
عرفت لاحقًا أنه لم يكن علي أن ألحق بالأوتوبيس، ولكن قضاء الله نافذ، بطريقة درامية وجدت نفسي في فيلم من أفلام التحقيق والجريمة، وكنت أكتم ضحكاتي مع كل سؤال، أنقذتني خدمتي العسكرية وتدريبي "النص نص" في الوقوف والإجابة بثبات، وأنقذتني رواية إباحية استعرتها من صديق لي دون معرفة فحواها، وكنت أنوي أن أتسلى بها في رحلة العودة إلى مطروح من اتهامي بالإرهاب، كان الضابط المسؤول يقرأ الجمل بصوت عال، ثم يختم آه ياصايع! لم أعرف ساعتها أنه ينطق بكلمات كتبها غابرييل غارسيا ماركيز، وكان يقولها بطريقة متدفقة مثل النهر لدرجة أنني حسبته يهذي، ولكنني فهمت لاحقًا عند قرائتي للرواية، وكدت أموت من الضحك، ولإنقاذ مايمكن إنقاذه أخذني زملاؤه من عنده وسلموني لقسم آخر شعرت فيه أنني دخلت عالم الجاسوسية فجأة، هنا يعرفون كل شئ عنك، دون الحاجة إلى سؤالك، حتى مالا تعرفه أنت عن نفسك، وعن الذين يحيطون بك ..
تسنى لي في فترة الضيافة القصيرة هذه أن أواجه نفسي لأول مرة فعلًا، أنه رعب حقيقي أن يجد المرء نفسه أمام نفسه، دارت الأفكار داخل رأسي، وتلاطمت الأمواج بشدة، ولولا طبقة الجلد الرقيقة، والقميص الأصفر، والبنطال الزيتي لغرقت الثلاجة التي كنا فيها بأفكاري ومشاعري وذكرياتي التي استعدتها فجأة هناك، هدأ الطوفان بعد ستة أيام، اتخذت فيها قرارات حياتي المصيرية، من وجهة نظري آنذاك، وخرجت إلى العالم، بدون هاتف، بدون هوية، وورقة فئة مائة جنيه خبئتها بعناية في ملابسي، جثة تحمل روحًا ضئيلة ..
في ميدان رمسيس تبرعت بالدم، شعرت أنني أصبحت إنسانًا جديدًا، بدماء جديدة، هاتفت والدي في الاستراحة، عنفني لغيابي المفاجئ دون أترك خبرًا، وجعلني أنتظر قدومه، وجدت حشدًا كبيرًا من الناس في استقبالي، أناس لم أقابلهم من قبل حتى، وبدا الجميع متشوقون لمعرفة القصة، لم أستطع أن أنام، وحكيت القصة باختصار مرارًا وتكرارًا، حتى اقترب أذان الفجر! دفع لي أخي عبدالرحمن بلابتوب وأراني من حسابه على فيسبوك كم الضجيج الذي أحدثه غيابي المفاجئ، لأصدقكم القول لم أكن أعرف أنني قيم لهذه الدرجة! وكنت متفاجئًا للغاية، ولازلت حتى الآن أكتشف أبعادًا جديدة من القصة!
الآن وبعد ستة سنوات مرت مثل الصاروخ على هذا الحدث الذي لم أستطع نسيانه أبدًا، لازلت أنا نتاج تكوين حدث راديكالي أطاح بشخصيتي النصف مسلوقة "هاف بويلد" ووضع مكانها شخصية أخرى مسلوقة تمامًا "هارد بويلد" ، تستطيع الاستجابة للأحداث والتعلم منها، واستخدامها كمحطة إطلاق، وحقل تجارب لشخصية العالم المجنون "الماد سينتستو" الذي يمتص كل شيء، ليخرج منه بالخلاصة.
شاكر وممنون لأهلي وأصدقائي الذين ساعدوني بعد عودتي كي أتعافى بسرعة، وأندمج في الحياة، وأن أتفهم قسوتها علي، وأن أتعاطف بشكل جدي مع ضحاياها، وأن أقدر قيمة القصص أكثر، وأن أحتفظ بجزء منها للحبايب، وهأنتم ذا قد حصلتم عليها.
الصورة من التقاط هاني السحرتي في ميناء مطروح
صباح يوم 18 يوليو 2022

تعليقات
إرسال تعليق