أنا وأخي

 


العائلة هم الذين وجدناهم حولنا منذ فتحنا أعيننا في الحياة، حتى لو كان الفارق بيننا عامًا بأكمله في حالتي أنا وأخي عبدُالرحمن!

أتذكر مصائب طفولتي أكثر مما يمكنني تذكر حدث مُعاصر، يوم خرج علينا الكلب الكبير من الحجرة وكاد أن يُغمى على من الخوف، أو يوم كدنا أن نموت صعقًا بالكهرباء، ولكنها لاشئ مقارنة بالمصائب التي كانت تحدث مع أخي عبدالرحمن، أو المصائب التي كان يُحدثها!

لا أذكر متى حضر صديقي عبدالرحمن بالضبط، 

ولكنني وجدته بجانبي منذُ وعيتُ على الدنيا، كان هناك أبي وأمي وأخي عبدالرحمن، كنتُ أحتفظ بنعومة أظافري، بينما كان عبدالرحمن يخدش بأظافره كل شئ، يحفر حفرة الكرات الزجاجية، أو يضع مسمارًا حديديًا في الكهرباء (هذه المرة التي كنا سنموت بالكهرباء لولا لطف الله) أو يجمع بيض الحمام.

كان يطارد الأرانب حتى جحورها عندما تخرج لأكل الخس والجرجير من حديقة منزلنا ويتشاجر مع طلبة والدي عندما يحضرون لدروسهم، ولم يكن حجمه الصغير يقف حائلًا بينه وبين أي شئ، فكانت شقاوته مصدر شقائه ومصدر شقاء من حوله، إذ أنه لايكاد يهدأ، ولم يكن يغمض له جفن حتى يتفوق على نفسه، في أي شئ، سيفاجئك دائمًا، بعد أن تفضح أفعاله عيناه الخضراوين.

كان الأمر مزعجًا، لم يكن أحد يعرف حينها شيئًا اسمه فرط الحركة، ولكنه لم يقف عائقًا بينه وبين حُب الناس له، فكنا ندلله، عبدالرحمن أصبحت رحمينو، ورحمينو أصبحت مينو، لقب يليق به تمامًا وبحجمه الصغير.

الطفولة المشردة قد تكون طفولة ظريفة، ولكنها في أغلب الأحيان مؤذية للغاية، أن تترك طفلك للمجتمع حوله يمارس ضده أفعالًا قاسية، ويطلق عليه ألقابًا سيئة، ولايستمع له عندما يتحدث، ويفتري عليه، ولايصدقه عندما يحاول الدفاع عن نفسه، لقد نجونا لحُسن الحظ! لقد رزقنا الله بوالدين رائعين متفهمين، زرعا بداخلنا القوة، وشجعانا دائمًا على المواجهة، ولكن هذا لم يمنع أي شئ!

بدأنا بحفظ القرآن في سنٍ مُبكرة، ولما كان يتحتم علينا التواجد في الكتاب كنا نحفظ ونقرأ ونسمّع ولاشئ آخر، فقد كان الشيخ عمي مستور حفظه الله يجلس في منتصف المسجد يُدير الجلسات، يقوم بالتسميع، وتصحيح الكراسات، ويستقبل تقارير المراجعات، كان هناك جدول مكتوب بخط اليد معلق على الحائط، تقول ماذا راجعت اليوم، وكم غلطة غلطتها، كل شئ في آن واحد، فتجد في المسجد طنينًا لاتحدثه خلية نحل، أما عصاه الصغيرة فكانت خارجة عن السيطرة، يمكن أن تجدها قادمة نحوك تدور في الهواء بسرعة جنونية لتلتصق بالحائط، ثم تنزلق ببطء ويتوقف معها كل شئ، يهدأ كل شئ، وينظر الجميع إلى المجرم الذي كاد أن يتسبب في عمل مصيبة، وحالت العصا بينه وبين ذلك، ثم تعود خلية النحل إلى الطنين، ولكن كل واحد في حاله هذه المرة، بشدة وعزم، بدون أحاديث جانبية، وبتركيز أكبر، وكانت هذه طريقة إعادة ضبط المصنع من الشيخ، في أحيانٍ أخرى كانت العصا تخرج عندما يرى الشيخ المجموعات تنفض من حوله، ولا أحد يتقدم، فتجد العصا تتحرك مصحوبة ب "يلا ياخشب يامسندة" ومع حركة العصا يتحرك المسجد، قانون يحكم، وهدف سامي يتواجد الجميع من أجله، أمّا حين يتأخر؛ فالشر في كل مكان!

يتشاجر الأطفال أو يلعبون، كرة القدم، السبع حيطات، ثم يتشاجرون أيضًا! عندما يضيق جيران المسجد ذرعًا بالأصوات العالية يتصلون بالشيخ ليتأكدوا منه أنه قادم اليوم، إذا لم يكن قادمًا فلاداعي لإبقاء هذه الفوضى وقتًا أطول! ولكن في هذه الفترة البسيطة يتعرض الأطفال المستضعفين للإيذاء أكثر من أي أحد آخر، فكلما اقتربت من مشاجرة لأرى طرفيها أجد أخي عبدالرحمن هناك! لم يكن يتحمل أي كلمة دون أن يشتبك، أحاول التصرف كأخ أكبر وأحاول إخراجه من هناك، أجده ناشبًا أسنانه في معدة خصمه، وأجدني أضحك رغمًا عني

أسحبه بينما أحاول جعله يتوقف من تلقاء نفسه

"توقف"، "دع الفتى في حاله"، "ستؤذيه ياولد".

ولكنه لايكاد يتوقف، أسأله ماذا فعل بك لتكن له مثل هذه الضغينة!

يقول لي في غضب واضح: يقول لي يامنّة! (يؤنث لقبه مينو)

ولم يكد ينتهي من قول كلمته حتى وجدت الفتى الآخر يقول بعدما رأى أثر العضة التي كادت أن تقتلع جلده "منة! منة شلبي! وهو يصقف بيديه مثل مهرج وأضحك تصرفه هذا الواقفين، وعندما نظرت إلى أخي عبدالرحمن الواقف بجانبي لم أجده، لقد ذهب ليشتبك من جديد!

كان عبدالرحمن أكثر من تعرض للإيذاء في طفولتنا بيننا، فمثل هذه المواقف لم تكن تمر مرور الكرام، كان يعرف، ثم يقوم بإحضار الطرفين ومعاقبتهما عقابًا شديدًا للجوء إلى العنف في محاولة لإسترداد الحق، وكان هذا يشعل نار الإنتقام في صدر عبدالرحمن، دون أن يحاول الإستفادة إطلاقًا من هذا الموقف.

كنتُ أستخدم هذه التقنية، أُخبِر الشيخ، أُخبِر أبي، ولا أشتبك إطلاقًا، لمعرفتي بالعواقب الوخيمة لهذا الأمر، كان الأطفال لايخافون من الأكبر، أو الأقوى، سيجربون فرصهم مهما كان خصومهم، يميلون للتحدي، ويملكون القوة للمواجهة، والحماس للنصر، مهما كانت الأسلحة مؤذية، وقاتلة، ومهما كانت قوة الخصم، لكنهم كانوا يتوقفون عند كلمة "افعل ماشئت، وأنا سأخبر الشيخ"، ينكزني، ويقول لي لن يصدقك الشيخ! ثم يتراجع منهزمًا أمام تفكيره بأن النيل من ضعيف مثلي لايستحق عقابًا من الشيخ!

لم أُفلح في تمرير هذه الفكرة إلى عبدالرحمن، فقد كان يميلُ إلى أخذ حقه بيده، وفورًا، ويعد ماعدا ذلك ضعف وانهزام، وكان أكثر من تأذى بسبب ذلك، ليس في شجارات الأطفال فقط، ولكن في حياته بعد ذلك.

كبرنا، اقتحم عبدالرحمن السوق قبلي، عمل في عدة أماكن، في الثالث الإعدادي تفرقنا، ذهبت للدراسة في دمنهور، بينما بقي هو في المدرسة الصناعية، هذه الفترة كانت مفصلية، فبينما اقترب هو من العائلة أكثر، ابتعدتُ أنا أكثر، وبينما أصبح هو أكثر اهتمامًا بالعائلة وأمور المنزل، أصبحت أنا أكثر اهتمامًا بأموري الخاصة، وترتيب حياتي الفوضوية، بقينا على ذلك حتى الآن تقريبًا، لم أفلح أنا في ترتيب حياتي الفوضوية، وأصبح عبدالرحمن أكثر اهتمامًا بأمور العائلة والمنزل بما فيهم أنا!

كان يلقي اللوم علي في الظهيرة والعشي لكوني متكاسلًا فاقدًا للحماسة، يمشي ببطء ويأكل ببطء ويعمل ببطء، يتولى الرد بالنيابة عني إذا سألني أحدٌ ما، ويرى نفسه وصيًا عليّ في المناسبات والأعياد، لاتضحك، لاتمزح، كن جادًا، وكنت كأخ أكبر أتقبل ذلك بصدرٍ رحب، كانت هذه طريقة لإظهار اهتمامه بي، ومحاولته لجعلي أفضل من أي أحد آخر، وكانت هذه طريقته وطريقة أمي، والحق تمامًا معهم.

التحق عبدالرحمن بالمعهد التكنولوجي العالي، وعمل بشكل كامل في نفس الوقت في فتح الله، أظهر تفوقًا واضحًا بعكس المعروف عنه، فقد كان تركيزه قليلًا، وينسي ماحفظه بسرعة، ولكنه اعتاد أن يقول اختبارات المعهد اختبارات لقياس الفهم، وليس لقياس الحفظ، لم أكن أصدقه تمامًا حتى تقابلت مع دكتور محمود الشربتلي وأخبرني نصًا أنه "عبدالرحمن أشطر طالب عندي".

لم يتوقف منزلنا عن استقبال زملاء لعبدالرحمن يشرح لهم المواد، وكان من ضمن هؤلاء ابن خالنا وصديقنا محمود شريف، الذي كان يكبرني بسنة واحدة وكان شاهدًا على هذه الأحداث منذ الكُتَّاب، ولكنه تأخر في الدراسة وتزامل هو وعبدالرحمن في المعهد، وقدما أداءً جيدًا، تخرج محمود وذهب إلى الجيش ليؤدي الخدمة العسكرية، ولحقه عبدالرحمن بعد ثلاثة أشهر، لكل منهما 12 عشر شهرًا من الخدمة، أثناء كتابة هذه الكلمات مضى من مدة عبدالرحمن ستة أشهر ، ومضى من مدة محمود تسعة، ولم يبق إلا القليل.

المواقف التي تعرض لها عبدالرحمن جعلته يتخذ أساليب دفاعية مختلفة، ولم يتغير كثيرًا منذ ذلك الحين، لايزال يتأذى كثيرًا بسبب مواقفه الحادة، ومحاولته للرد على كل شيء، ولا ألومه! لكل منا طريقته التي يرتاح بها في التعامل مع الناس، ويرتاح إليها أكثر من غيرها، ليس لأنه الصحيحة تمامًا ولكنها الأنسب له.

ناشدني ذات مرة أن أكتب عن شيء يراه هو يستحق الكتابة عنه، وقد أخبرني عن جميع التفاصيل، فأخبرته لماذا لاتكتبها أنت إذا كنت مهتمًا لهذه الدرجة؟ قال لي "نا منعرفش نكتب، أنت تعرف تكتب"، لذا أنا أُهدي إليه هذه الجولة من الكلمات، وأقول له: هذا طريقتي في إظهار اهتمامي.

الصورة لأخي عبدالرحمن بعدستي وهو يناولني بيضات أحضرها من قن الدجاج لنصنع منها طعام الإفطار

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كارثة قادمة؟ تحلى ببعض الأمل

لماذا يحب الرجال الحروب! أحاديث على هامش اليوم العالمي للسلام.